القواعد الفقهية
أهمية القواعد الفقهية :
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في نظمه .
اعلم هُديت أن أفضلَ المِننْ ***علمٌ يزيلُ الشكَّ عنكَ والدَّرَنْ
ويكشفُ الحقَّ لذي القلوبِ ***ويوصِلُ العبدَ إلى المطلوبِ
فاحرصْ على فهمِكَ للقواعدِ***جامعةِ المسائلِ الشواردِ
فترتقي في العلمِ خيرَ مرتقى ***وتَقْتَفِي سُبْلَ الذي قَدْ وفِّقَا
فقد حض الشيخ على الحرص على فهم ومعرفة القواعد الكلية للعلوم ، فمعرفة القوعد الكلية أهم من معرفة المسائل ، فعن طريق القواعد الكلية ، يمكن حل المسائل المختلفة . فالقواعد الفقهية أهم من دراسة الفقه بدايةً ، فَمَنْ أراد دراسة الفقه وفهمه على أسس صحيحة فعلية بدراسة وفهم القواعد الكلية أولاً ، حتى يستطيع فهم الفقه ومسائله المتفرقة فترتقي في العلم ، فالعلم يرفع صاحبه . قال تعالى : "يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ .".سورة المجادلة / آية : 11 .
والجهل يهبط بصاحبه . فكلما ازداد الإنسان من العلم النافع ، حصل له كمال اليقين ، وكمال الإرادة ، ولا تتم سعادة العبد إلا باجتماع هذين الأمرين .
وإذا كان العلم بهذه المثابة ، فينبغي للمسلم أن يحرص كل الحرص ويجتهد كل الاجتهاد في تحصيله ، وأن يديم الاستعانة بالله في تحصيله ، ويبدأ بالأهم فالمهم . ومن أهمه معرفة أصوله ، وقواعده التي ترجع مسائله إليها .
ومن هذه الأصول ؛ العلم " بالقواعد الفقهية " . وهذا العلم لا يستغني عنه كل مجتهد فقيه ، وقد أشاد كثير من العلماء بشأن هذا العلم ، وبَيَّنوا حاجة الفقيه الماسة إلى الإلمام به وتعلمه .شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي .
* قال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ :
" فهذه قواعد مهمة ، وفوائد جَمَّة ، تضبط للفقيه أصول المذهب ، وتُطْلِعه من مآخذ الفقه على ما كان عنه تَغَيَّب ، وتُنَظم له منثور المسائل في مسلك واحد ، وتُقيد له الشوارد ، وتُقرِّب عليه كلمتباعد .ا . هـ
وتتلخص أهمية القواعد الفقهية في :
أولاً : أن القواعد الفقهية تضبط الأمور المنتشرة المتعددة ، وتنظمها في سلك واحد مما يُمكِّن من إدراك الروابط والصفات الجامعة بين الجزئيات المتفرقة .
ثانيًا : أن ضبطها يُيَسِّر على الفقيه ضبط الفقه بأحكامه ، ويغنيه عن حفظ أكثر الجزئيات . لذا قال القرافي ـ رحمه الله ـ : " من ضَبَطَ الفقهَ بقواعدِهِ ، استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات ؛ لإدراجها في الكُليات " .
ثالثًا : أن دراستها تُكَوِّن عند المرء مَلَكَة (1) فقهية تُنير أمامه الطريق لدراسة أبواب الفقه الواسعة والمتعددة ، واستنباط الحلول للوقائع المتجددة ، لذا أصبحت القواعد معينا للفقهاء ، ومبعث حركة دائمة ونشاط متجدد ، يبعد الفقه عن أن تتحجر مسائله ، وتتجمد قضاياه .
رابعًا : أنها تُمَكِّن الفقيه من تخريج الفروع بطريقة سَوِيَّة ، وتُبعده عن التَّخبط ، والتناقض الذي قد يترتب على التخريج من المناسبات الجزئية .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 6 .
( 1 ) تربي عنده ملكة الفهم والاستنباط والنظر والاجتهاد في الفروع الفقهية بحيث لا يغدو طالبًا حافظًا فقط لكتب الفروع ، وإنما يربى على ضم المسألة إلى مثيلاتها ونظيراتها وما شابهها ، وهذا يفيد الطالب في :
أ : إبعاده عن الجمود الفكري . ب : والنظر الفقهي ، فينتقل على إثر ذلك ن مرحلة التقليد لغيره إلى مرحلة أوسع ، وهي مرحلة الاستدلال والنظر .
منظومة القواعد الفقهية .../ شرح : خالد الصقعبي / ص : 8 .
نبذة تاريخية
نزل القرآن الكريم يتضمن الكثير من القواعد .
ومثاله " وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " .سورة المائدة / آية : 2 .
فهذه قاعدة ؛ فكل ما يطلق عليه بر وتقوى ، أمر الشرع بالتعاون عليه ، وكل ما كان إثم فالشرع نهى عن التعاون عليه .
"وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا" . سورة الشورى آية : 40 .
جزاء كل سيئة سيئة مثلها .
ومن المعلوم أن الله ـ عز وجل ـ امتَّنَّ علينا ببعثة نبيه محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، وخصه بخصائص منها أنه أوتي جوامع الكلم ، وجوامع الكلم أن يتكلم النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بالكلام القليل ، الذي يكون له معان عديدة ، ويشمل أحكامًا متعددة .
وإذا تأمل المرء سنة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وجد فيها من ذلك الشيء الكثير .
ومثال ذلك : قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا ضرر ولا ضرار " .سنن ابن ماجه / تحقيق الشيخ الألباني / ( 3 ) ـ كتاب : الأحكام /( 17 ) ـ باب : من بنى في حقه ما يضر جاره / حديث رقم : 2340 / ص : 400 / صحيح .
القواعد الفقهية بين الأصالة ... / ص : 18 / بتصرف .
فالمقصود أن المتأمل في سنة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يجد أن هناك عددًا من الأحاديث النبوية قد اختصرت ألفاظها ، ودلت على معانٍ عديدة ، وأحكام متعددة ، فيدلنا هذا على مبدأ قواعد الفقه .
ـ ثم بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وردت ألفاظ رشيقة عن الأئمة من الصحابة ، ومَنْ بَعْدَهم من التابعين فيها ؛ اختصار في الألفاظ ، وشمول في المعاني والأحكام .
ومن ذلك : قول أمير المؤمنين " عمر بن الخطاب " ـ رضي الله عنه ـ " مقاطع الحقوق عند الشروط ... "، كما ذكر ذلك البخاري تعليقًا . ( 54 ) ـ كتاب : الشروط / ( 6 ) ـ باب : الشروط في المهر عند عقدة النكاح / ص : 318 ) . ورواه بإسناد جيد : عبد الرزاق وغيره .
ومعناها : مقاطع جمع مقطع وهو موضع القطع في الأصل ، وأراد بمقاطع الحفوق : وجوب الحقوق عند الشروط .
وقال أمير المؤمنين " عمر بن الخطاب " ـ رضي الله عنه ـ أيضًا : هذه على ما نقضي ، وتلك على ما قضينا . فهذه عبارة مختصرة أصبحت قاعدة فقهية يهتدي بها الأئمة والعلماء والفقهاء ، وهذا اللفظ رواه عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وجماعة بإسناد لا بأس به .
ـ ثم بعد عصور الصحابة والتابعين ، وبعد أن جاء عصر التدوين نجد الواحد من العلماء يعلل الأحكام الفقهية التي يطلقها بعلل تجمع أحكامًا فقهية من أبواب شتى ، فأخذ من تلك التعليلات قواعد فقهية .
ومن أمثلة ذلك بعد عصر التدوين أن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في كتابه الأم ، ذكر عددًا من الأحكام وعَلَّلَهَا بعِلل جامعة تشمل مسائل عديدة ؛ من ذلك قوله ـ رحمه الله ـ " لا يُنسب إلى ساكت قول " ومنه قوله " الرُّخَص لا يتعدى بها محلها " ـ فأُخِذَت هذه الألفاظ كقواعد عامة ـ قواعد فقهية ـ ، ورُتبت عليها أحكام فقهية في أبواب عديدة .
ومن ذلك : قول الإمام أبي يوسف ـ رحمه الله ـ "التعذير إلى الإمام على قدر الجناية " .
ومنها قوله عن الوصي " لا يشتري كيف يبيع " يعني : لا يشتري من الميراث ، كيف يشتري وهو يبيع ؟ فأخذ من هذا قاعدة فقهية أن من يبيع لا يشتري ، فمثال ذلك : الوكيل إذا كان سيبيع بضاعة لغيره ، فإنه لا يجوز أن يشتري تلك البضاعة لنفسه .
ـ ثم بعد عصور أوائل التدوين ، رَغب العلماء جمع تلك القواعد في مؤلفات خاصة ، وذلك لأن الفروع الفقهية متكاثرة ، ولا يمكن الإحاطة بها ، فعندما نضبط تلك القواعد نستطيع ضبط الفروع الفقهية . فحاول العلماء التأليف في القواعد الفقهية .
ـ ومن أوائل من ألَّفَ في القواعد الفقهية : " أبو الحسن الكرخي " المتوفى سنة أربعين وثلاثمائة ( 340 ) ، في كتاب عُرف بعد ذلك باسم " أصول الكرخي " .
ثم ألَّفَ بعده ( أبو زيد الدَّبُوسيّ ) المتوفى سنة ( 430 ) كتابه : " تأسيس النظر " وذكر فيه عددًا من القواعد الفقهية ، وذكر فيه عددًا من الفروع الفقهية المترتبة على تلك القواعد .
ـ بعد ذلك جاء الإمام " العز بن عبد السلام " ـ رحمه الله ـ المتوفى سنة ست وستمائة ( 606 ) فألف كتابه :
" قواعد الأحكام في مصالح الأنام " ، وكان من أوائل الكتب المؤلَّفَة في القواعد الفقهية ، فاحتذى العلماء بعده حذوه ، فألَّفُوا مؤلَّفات عديدة في هذه القواعد .
منظومة القواعد الفقهية / شرح : سعد بن ناصر الشثري/ ص : 4 / بتصرف .
ـ أما القرن الثامن الهجري ، فإنه يعتبر العصر الذهبي في تدوين القواعد الفقهية ونهضتها على أيدي كبار الأئمة ، فقد اتسعت رقعتها ، واحتفلت (1) المؤلفات فيها ، ومن أشهر ا أُلِّف في هذا العصر :
* " القواعد النورانية الفقهية " لشيخ الإسلام ابن تيمية .
* " الأشباه والنظائر " لتاج الدين السُّبكي . ( المتوفي : 771 هـ ) .
* " القواعد في الفقه الإسلامي " للحافظ ابن رجب الحنبلي ( المتوفى : 795 هـ ) . وغيرها كثير .
( 1 ) حفل اللبن في الضرع : اجتمع ... ، امتلأ به . المعجم الوجيز / ص : 161 .
ـ وفي القرن التاسع الهجري ، جاء العلاَّمة ابنُ المُلَقِّنِ الشافعي فوضع كتابه : " الأشباه والنظائر " ورتبه على الأبواب الفقهية ، مبينًا ما وقع فيه الاختلاف .
ـ ثم جاء القرن العاشر الهجري ، وفيه رَقِيَ التدوين بكتاب " الأشباه والنظائر " للعلامة السيوطي ـ رحمه الله ـ والذي جمع فيه القواعد المتناثرة والمبددة عند العلائِّي ، والسّبكيِّ، والزّركشيِّ ، وهو يُعد من أروع ما أُلف في هذا المجال ، وأغزرها مادة ، وأحسنها ترتيبا وتنسيقًا .
ونظيره " الأشباه والنظائر " للعلامة ابن نُجيمٍ الحنفيِّ ـ رحمه الله ـ .
القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين ... / ص : 188 / بتصرف .
ثم تتابعت مصنفات الحنابلة في القواعد جيلاً بعد جيل ، ورعيلاً يعقبه رعيل ، فألَّفوا ي ذلك كتبًا شريفة ومختصرات مضبوطة . وكان من آخر ما أُلِّف : " منظوة القواعد الفقهية " للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السَّعدي ـ رحمه الله ـ ضمنها طائفة من مختاراته في القواعد والضوابط ، وقد احتوت على مهمات القواعد كما ذكره الناظم في الشرح بقوله" وبعد ، فإني وضعت لي ولإخواني منظومة مشتملة على مهمات قواعد الدين ، وهي وإن كانت قليلة الألفاظ ،فهي كثيرة المعاني لمن تأملها " . ومن ثمَّ كانت عناية المتأخرين بهذا النظم دراسة وحفظًا وتفهُّمًا وضبطًا .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 10 .