مدخل لدراسة المعتقد الصحيح
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخــــل لدراســـة
" المعتقــــد الصحيـــح "
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ.
وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه.
خلق الله تعالى الإنسان ، وسخر له كل ما في الكونِ ليقومَ الإنسانُ بالمهمةِ التي خلقَهُ اللهُ تعالى من أجلِها .
قال تعالى " وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأََرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ... " .سورة الجاثية / آية : 13 .
تلك المهمة هي : عبادة الله تعالى وحده دون سواه .قال تعالى "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ".سورة الذاريات / آية : 56 ، 57 .
ومن أجل ذلك خلق الله تعالى الإنسان مفطورًا على معرفته وتوحيده وإن كان يجهل كيفية عبادته سبحانه وما الذي يرضيه أو يسخطه ، فأرسل الله الرسل وأنزل الكتب ليبينوا للناس كيف يعبدون ربهم ويرضونه ويتجنبون سخطَهُ سبحانه وتعالى .
وهذا هو الدين ، فالدين هو هذا المنهج الذي أنزله الله تعالى على رسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ليبين للخلق كيف يعبدون ربهم .
فالحكمة من خلق الجن والإنس ، هي عبادة الله ، لا أن يتمتعوا بالمآكل والمشارب والمناكح ..... .
وورد في القول المفيد على كتاب التوحيد ج : 1 / ص : 56 :
والعبادة الخالصة الحقـة ، مبنية على التوحيد ، فكل عبادة لا توحيد فيها فهي باطلة .
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ :
" قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه مَعِيَ غَيري ، تركته وشركه " .ا . هـ .
صحيح مسلم / كتاب : الزهد / باب : من أشرك في عمله غير الله / حديث رقم : 2289 .
وقد بقي النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في مكة بعد البعثة ثلاثة عشرَ عامًا يدعو الناس إلى التوحيد ، وإصلاح العقيدة ، لأنها الأساس الذي يقوم عليه بناء الدين .
وقد احتذى الدعاة والمصلحون في كل زمان حذو الأنبياء والمرسلين ، فكانوا يبدءون بالدعوة إلى التوحيد ، وإصلاح العقيدة ، ثم يتجهون بعد ذلك إلى الأمر ببقية أوامر الدين .
والعبادة حتـى تكون مقبولة لها شرطان :
1 ـ الإخلاص : وذلك بألا يراد بها إلا وجه الله تعالى وهذا لا يتأتى إلا بدراسة التوحيد .
2 ـ صوابًا أي : المتابعة : وذلك بأن تكون العبادة على الكتاب والسنة الصحيحة .
وهذا يتأتى بتعلم العلم الشرعي بمقاصده الشرعية الصحيحة ، بأن يُراد من تعلم العلم أن يكون وقودًا للإيمان فيزيده ، وأن يكون على المنهج الصحيح وذلك باتباع الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
· والسلف الصالح خير من حقق الاتباع .
ـ فحين خَلُصَت نفوس المؤمنين بـ " لا إله إلا الله " من ألـوان الشرك المختلفة ، فقد حدث في نفوسهم تحول هائل . كأنه ميلاد جديد .
لم يكن مجرد التصديق ، ولا مجرد الإقرار . لقد كان كأنه إعادة ترتيب ذرات نفوسهم على وضع جديد ، كما يُعاد ترتيب الذرات في قطعة الحديد ، فتتحول إلى طاقة مغناطيسية كهربائية ... كان الاهتداء إلى " الحق " هائل الأثر في كل جوانب حياتهم .
لقد صارت " لا إله إلا الله " هي مفتاح التجمع والافتراق ، هي الرباط الذي يربط القلوب التي آمنت بها ، ويفصل بينها وبين غيرها من القلوب .
ـ ولم ينحصر مفهوم " لا إله إلا الله " في حسهم في نطاق الشعائر التعبدية وحدها ، كما انحصر في حس الأجيال المتأخرة التي جاءت بفهم للإسلام غريب عن الإسلام .
إن شعائر التعبد لا يمكن بداهةً أن تكون هي كل " العبادة " المطلوبة من الإنسان .
فما دامت غاية الوجود الإنساني كما تنص الآية الكريمة ، محصورة في عبادة الله .
"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" . سورة الذاريات / آية : 56 .
فأنى يستطيع الإنسانُ أن يوفي العبادة المطلوبة بالشعائر التعبدية فحسب ؟
كم تستغرق الشعائر من اليوم والليلة ؟ وكم تستغرق من عمرالإنسان ؟
وبقية العمر؟ وبقية الطاقة ؟ وبقية الوقت ؟ أين تُنفَق ، وأين تذهب ؟
ـ كان في حسهم أن حياتهم كلها عبادة ، وأن الشعائر إنما هي لحظات مركزة ، يتزود الإنسان فيها بالطاقة الروحية التي تعينه على أداء بقية العبادة المطلوبة منه .
كانوا يقومون بالعبادة وهم يمارسون الحياة في شتَّى مجالاتها ، كانوا يذكرون الله فيسألون أنفسهم : هل هم في الموضع الذي يُرضي الله ، أم فيما يُسخط الله ؟ !
فإن كانوا في موضع الرضى حمدوا الله ، وإن كانوا على غير ذلك استغفروا الله وتابوا إليه .
ـ وكانوا يذكرون الله ، فيسألون أنفسهم : ماذا يريد الله منا في هذه اللحظة ؟ !
أي : ما التكليف المفروض علينا في هذه اللحظة ؟ !
إذا كان التكليف " .. وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" .سورة النساء / آية : 19 .
كان ذكر الله مؤديًا إلى القيام بهذا الواجب الذي أمر بـه الله تجاه الزوجات .
وإذا كان التكليف " ... قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ... " .سورة التحريم / آية : 6 .
كان ذكر الله مؤديًا إلى القيام بتربية الأهل والأولاد على النهج الرباني الذي يضبط سلوكهم بالضوابط الشرعية .
وإذا كان التكليف " ... فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ " .سورة الملك / آية : 15 .
كان مقتضى ذكر الله ، هو المشي في مناكب الأرض وابتغاء رزق الله في حدود الحلال الذي أحلَّهُ الله ، لأنه إليه النشور فيحاسب الناس على ما اجترحوا في الحياة الدنيا .
وهكذا ... فقد فهموا أن الصلاةَ والنُّسُك- أى : الشعائر-إنما هي المنطلق الذي ينطلق منه الإنسان ليقوم ببقية العبادة التي تشمل الحياة كلها ، بل الموت كذلك .
فالشعائر مجرد محطات شحن للانطلاق إلى بقية العبادة ، ويشمل ذلك الموت .
الموت في حد ذاته لا يمكن أن يكون عبادة بطبيعة الحال ، لأنه لا خيار للإنسان فيه ... ولكن المقصود في قوله تعالى
".. وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ .." .
سورة الأنعام / آية : 162 ، 163 .
هو أن يموت الإنسان غير مشرك بالله ، وذلك هو الحد الأدنى الذي يكون به الإنسان ( في موته ) عابدًا لله ، أما الحد الأعلى فهو أن يكون موتُه في سبيل الله ، أما اليوم فقد حدثت انحرافات كثيرة في حياة المسلمين ، وانحراف المسلمين في سلوكهم أمر واضح ، تفشَّى في حياتهم الكذب والغش والنفاق ، والضعف والجبن والبدعوالمعاصي والتبلُّد والفجور والمنكر...
ـ فهذا واقع المسلمين ومع ذلك فليس الانحرافالسلوكي هو الانحراف الوحيد في حياة المسلمين ، ولكن الأمر تجاوز ذلك إلى الانحراف في " المفاهيم " كل مفاهيم الإسلام الرئيسية ابتداءً مـن مفهوم لا إله إلا الله .
وحين تجد إنسانًا منحرفًا في سلوكه ، ولكن تصوره لحقيقة الدين صحيح ، فستبذل جهدًا ما لرده عن انحرافهالسلوكي ، ولكنك لا تحتاج أن تبذل جهدًا في تصحيح مفاهيمه ، لأنها صحيحة عنده وإن كان سلوكه منحرفًا عنها .
أي : أنه حين يقع الانحراف في المفاهيم ذاتها ، فكم تحتاج من الجهد لتصحيح المفاهيم أولاً ثم تصحيح السلوك بعد ذلك .
ـ من أجل هذا الانحراف في المفاهيم ، فإن الإسلام اليوم يعاني تلك الغربة التي تَحدَّث عنها رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ :
" بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ ، فطوبى للغرباء " .
صحيح مسلم / ج : 2 / ص : 354 / حديث رقم : 370 .
ولقد عاد غريبًا بالفعل ..... غريبًا بين أهله أنفسهم ، يتصورونه على غير حقيقته ، فضلاً عن سلوكهم المنحرف عنه ، ويستغربونه حين يعرض لهم في صورته الحقيقية كما جاءت في كتاب الله ، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ الصحيحـة ، وعلينـا أن نواجـه الأمر على حقيقته ، فإن أي جهد يُبذل في تصحيح السلوك وحده مع بقاء المفاهيم منحرفة ، لن يؤتي ثماره كاملة ، ولن يُخرج الأمة الإسلامية من وهدتها التي انتكست إليها في العصر الحاضر .
إنـا نحتاج أن نبذل جهدًا مضاعفًا لإزالة الغربة الثانية ، كالجهد الذي بذله الجيل الأول من المسلمين لإزالة الغربة الأولى للإسلام .
وأول ما نبدأ به من هذا الجهد ، هو تصحيح منهج التلقي
من أين نتلقي فهمنا لهذا الدين ؟ !
من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ الصحيحة بفهم السلف الصالح ، وذلك عن طريق علماء أهل السنة والجماعة ، الذين يعتبرون مجرد قنوات توصيل للمنهج الصحيح .
قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم " ..... فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعَضُّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ..... " .
أخرجه أبوداود . وحسنه الشيخ مقبل ـ رحمه الله ـ في الجامع الصحيح مجلد رقم : 5 / ص : 24 .
فلنقتف أثر الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ تأسيًا بالسلف الصالح .
ـ فعن عمر بن سلمة الهَمْدَاني ـ رحمه الله ـ قال :
" كنا نجلس على باب " عبد الله بن مسعود " قبل صلاة الغداةِ ، فإذا خرج مَشَيْنا معه إلى المسجد .
فجاءنا " أبو موسى الأشعري " ، فقال : أَخَرَجَ إليكم " أبو عبد الرحمن " بعد ؟ . قلنا : لا .
فجلس معنا حتى خرج ، فلما خرج قمنا إليه جميعًا .
فقال له أبو موسى : يا " أبا عبد الرحمن " إني رأيتُ في المسجد آنفًا أمْرًا أنكرته ! ولم أرَ والحمد لله إلا خيرًا .
قال : فما هو ؟
فقال ( أي أ بي موسى ) : إن عشـت فسـتراه .
قال أبو موسى : رأيت في المسجد قوْمًا حِلَقًا ، جلوسًا ، ينتظرون الصلاة ، في كل حلْقة رجل ، وفي أيديهم حصى فيقول : سبَّحوا مائة ، فيسبحون مائةً .
قـال ـ أي : عبـد الله بـن مسـعود ( أبـو عبـد الرحمـن ) ـ : فمـاذا قلـتَ لهـم ؟
قال - أي : أبى موسى الأشعري - : ما قلتُ لهم شيئًا انتظارَ رأيك .
قال - ابن مسعود - : أفلا أمرتَهم أن يَعدوا سيئاتهم وضَمِنتَ لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء ؟ ! ثم مضى ومضينا معه ، حتى أتى حَلْقةً من تلك الحِلَق ، فوقف عليهم فقال : ما هذا الذى أراكم تصنعون ؟
قالوا : يا أبا عبد الرحمن ، حصى نَعُدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح .
قال : فَعُدوا سيئاتكم ، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء ، ويْحَكُم يا أمة محمد ! ما أ َسْرعَ هلكتكم ! هؤلاء صحابة نبيكم ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ متوافرون وهذه ثيابه لم تبل ، وآنيته لم تكسر ، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أو مفتتحوا باب ضلالة ؟ ! ! !
قالوا : والله يا أبا عبد الرحمن ، ما أردنا إلا الخير .
قال : وكم من مريد للخير لن يصيبه ، إن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حدثنا :
" إن قومًا يقرؤون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرقُ السهم من الرمية " .
" وايم الله " (1) ما أدري لعلَّ أكثرهم منكم! ثم تولى عنهم
فقال عمرو بن سلمة : فرأينا عامة أولئك الحِلَق يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج .
أخرجه الدارمي . وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة / مجلد رقم :5 /حديث رقم : 5002 .
( 1 ) " وايم الله " : كلمة قسم . همزتها همزة وصل . المعجم الوجيز / ص :31 .
قال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ :
وإنا عُنيتُ بتخريجه من هذا الوجه لقصة ابن مسعود مع أصحاب الحلقات ، فـإن فيها عبرة لأصحاب الطرق وحلقات الذكر على خلاف السنة ، فإن هؤلاء إذا أنكرعليهم منكر ما هم فيه ، اتهموه بإنكار الذكر من أصله ! وهذا كفر لا يقع فيه مسلم ، وإنما المنكَر ما أُلصِق به من الهيئات والتجمعات التـي لـم تكـن مشـروعة على عهد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، وإلا فما الذي أنكره ابنُ مسعود ـ رضي الله عنه ـ على أصحاب تلك الحلقات ؟ !
ليس هو إلا التجمع في يوم معين ، والذكر بعدد لم يرد ، وإنما يحصره الشيخ صاحب الحَلْقة ، ويأمرهم به من عند نفسه ، وكأنه مُشرِّع عن الله تعالى .
قال تعالى" أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِـهِ اللهُ ... ".سورة الشورى / آية : 21 .
ـ زد على ذلك أن السـنة الثابتة عنه صـى الله عليه وعلى آله وسلم فعلاً وقولاً إنما هي التسبيح بالأنامل .
* ومن الفوائد التي تؤخذ من الحديث ، أن العبرة ليست بكثرة العبادة ، وإنما بكونها على السنة ، بعيدة عن البدعة .
وقد أشار إلى هذا - ابن مسعود - بقوله :
" اقتصاد في سنة ، خيرٌ من اجتهادٍ في بدعة " .
* ومن الفوائد أن البدعة الصغيرة بريدٌ إلى البدعة الكبيرة ، ألا ترى أن أصحاب الحلقات صاروا بعدُ مِنَ الخوارج الذين قتلهم الخليفة الراشد " علي بن أبى طالب " ؟
فهل من مُعْتَبِر ؟ نظم الفرائد / ج : 1 / ص : 211 .